(خرجت قريش - يوم أحد - بحدِّها وجدِّها وحديدها وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة والظعينة[1])، موتورين بآبائهم وإخوانهم، يُجعجع فرسانهم، وتضرب بالدف نساؤهم، وينادي بالثأر جميعهم، فيهم مئتا فارس، على رأسهم خالد بن الوليد؛ يواجهون سبع مئة رجل؛ رجال حُسر، ولم يغنِ قريشاً أن بها خالد بن الوليد، ولم يستطع أن يفعل شيئاً إلا على غِرَّة، والمسلمون مشغولون، قد انفضوا من مواقعهم، واستدار بعضهم على بعض؛ و برغم ذلك، ما استطاع خالدٌ بثلاثة آلاف أن يقتل إلا سبعين رجلاً، أو أقل.
وفي يوم الحديبية خرجت قريش، كخروجها يوم أحد أو أشد، ووقف خالد بن الوليد على رأس فرسان قريش، وما جرؤ على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وهم حُرُمٌ لا يحملون إلا سيف الراحلة، بل وقف يبحث عن وقت غفلة؛ كي يأخذهم على غِرَّة - كما فعل يوم أحد - وما استطاع شيئاً[2].
وفي سنة تسع من الهجرة عقدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لواءً لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - بأربع مئة وعشرين فارساً، إلى إحدى قرى الشام (دومة الجندل)؛ كي يُغِيْر على مَلكها أُكَيْدِرِ؛ فقال خالد: يا رسول الله، كيف لي به وسط بلاد كَلْبٍ، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستجده يصيد البقر؛ فتأخذه))؛ فتشجع خالد، وسار إليه فوجده على الحال التي وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فأخذه.[3]
وبعد عامين فقط: تجمعت قبائل كلب، ومن جاورها من بني تميم، ومعهم أحياء قضاعة عند دومة الجندل؛ فتحرك إليهم خالدٌ في جيش أقل منهم بكثير جداً، وذبحهم في الحصون وحولها.
وبعد عامين آخرين: ركب خالد بن الوليد في نفر يسير - بالنسبة لقوات العدو - إلى من ارتد من العرب؛ من غطفان، وبني حنيفة. ثم اتجه إلى أهل العراق والشام؛ فأتى على قوى الكفر كلها؛ من عرب، وفرس، وروم في تلك البلاد، وما تردد في معركة، وما انهزم.
ما الذي حدث؟
خالد هو خالد، بل في الإسلام كبرت سنه ورقَّ - بعض الشيء - عظمه، فكيف يَهزم كل هذه الجيوش المتماسكة المجتمعة؟ وكيف يقتل كل هذا العدد من البشر؟[4]
حدث هناك نوع من التغير في المفاهيم، والتصورات الداخلية، التي تُحرِّك خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ومن معه؛ نوع جديد من المفاهيم عن طبيعة المعركة، وأسباب النصر والهزيمة؛ جعلت خالداً يُحْدث كل هذا الأثر في واقع الناس. وتدبر هذين الموقفين:
الإسلام يُغيِّر مفاهيم خالد:
يوم اليرموك: جاء أحدهم يخوفه من الروم - وقد أقبلت كالسحابة السوداء، تسد الأفق، تموج بهم الأرض، كما يموج البحر، صوتهم كالرعد - كما يصفهم ابن كثير - رحمه الله - على لسان من حضر المعركة - والمسلمون قلة -: جاء يقول لخالد: ما أكثرَ الرومَ وأقل المسلمين! فقال خالد: ويلك! أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر (أي من الله)،[5] وتقل بالخذلان، لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر – يعني فرسه - براء من توجيه، وأنهم أُضعِفوا في العدد .
وحين همَّ بعبور بادية الشام من العراق إلى اليرموك؛ تخوف من معه؛ واستداروا كأنهم يريدون مراجعته في أمر العبور إلى الشام؛ فقام فيهم خطيباً بهذه الكلمات: "اعلموا أن المعونة على قدر النية، والأجر على قدر الاحتساب؛ فأروا الله من أنفسكم خيراً؛ يمدكم بمدده".
خالد بالأمس القريب، حين أُمِرَ بالتوجه لأُكيدر؛ يحسب للعدد حساباً وينادي: "كيف ... وإنما أنا في نفر يسير؟" وهو اليوم يلغي عامل العدد من أسباب النصر والهزيمة.
وخالد يتمنى شفاء فرسه؛ ليكون أنشط في القتال، مقابل أن يزيد جيش الروم ضعفاً كاملاً. أهذا خالد يوم أُحد والحديبية؟!
وخالد يُقدم على عبور المفازة، سالكاً طريقاً لا يظن عاقل أن جيشاً يسير به وينجو؛ معتمداً على أن "المعونة - من الله - على قدر النية"؛ فهو يتكلم بأن السبب المطلوب بذله لعبور هذه المفازة هو صدق اللجوء إلى الله، وحسن التوكل عليه، ويُذكِّر من معه بالاحتساب؛ حتى لا يضيع الأجر.
العقيدة.. ومقاييس أخرى للنصر والهزيمة:
إن العامل الأساسي هو العقيدة، وليس شخص خالد - رضي الله عنه - فكما رأيت، حَدَثَت تغيرات نوعية في شخصية خالد، وما أنجزه بعد الإسلام، وهذا الأثر ازداد تدريجياً بثبات الإسلام في صدر أبي سليمان – خالد بن الوليد - كما علل هو، رضي الله عنه وأرضاه.
يزداد هذا الأمر وضوحاً في ذهنك - أخي القارئ - حين تتذكر أن الفتوحات الإسلامية لم تتأثر مطلقاً برحيل خالد عن القيادة، ولكن برحيل الجيل الأول من الصحابة، ومجيء من كانوا أقلَّ شأناً في أمر الدين.
ويزيد من هذه الفرضية أن النصر، والهزيمة، وطبيعة المعركة - من حيث أطرافها – لها تصور خاص في الشريعة الإسلامية؛ فالشريعة تتكلم على حضور الملائكة القتال؛ تثبِّت الذين آمنوا، وتلقي الرعب في قلوب الذين كفروا؛ قال الله – تعالى -: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال]، وحضور الملائكة الكرام متوقِّف على تقوى الله، لا على عدد المسلمين وعتادهم، ولا على كونهم منتسبين للإسلام فقط؛ يقول الله – تعالى -: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران].